فصل: علي بن عبد الحميد بن عبد الله بن سليمان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 صفة مقتل الحلاج

قال الخطيب البغدادي وغيره‏:‏ كان الحلاج قد قدم آخر قدمة إلى بغداد فصحب الصوفية وانتسب إليهم، وكان الوزير إذ ذاك حامد بن العباس، فبلغه أن الحلاج قد أضل خلقاً من الحشم والحجاب في دار السلطان، ومن غلمان نصر القشوري الحاجب، وجعل لهم في جملة ما ادعاه أنه يحيي الموتى، وأن الجن يخدمونه ويحضرون له ما شاء ويختار ويشتهيه‏.‏

وقال‏:‏ إنه أحيا عدة من الطير‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 160‏)‏

وذكر لعلي بن عيسى‏:‏ أن رجلاً يقال له‏:‏ محمد بن علي القنائي الكاتب، يعبد الحلاج ويدعو الناس إلى طاعته، فطلبه فكبس منزله فأخذه فأقر أنه من أصحاب الحلاج، ووجد في منزله أشياء بخط الحلاج مكتوبة بماء الذهب في ورق الحرير مجلدة بأفخر الجلود‏.‏

ووجد عنده سفطاً فيه من رجيع الحلاج وعذرته وبوله وأشياء من آثاره، وبقية خبز من زاده‏.‏

فطلب الوزير من المقتدر أن يتكلم في أمر الحلاج ففوض أمره إليه، فاستدعى بجماعة من أصحاب الحلاج فتهددهم، فاعترفوا له أنه قد صح عندهم أنه إله مع الله، وأنه يحيي الموتى، وأنهم كاشفوا الحلاج بذلك ورموه به في وجهه، فجحد ذلك وكذبهم‏.‏

وقال‏:‏ أعوذ بالله أن أدعي الربوبية أو النبوة، وإنما أنا رجل أعبد الله وأكثر له الصوم والصلاة وفعل الخير، لا أعرف غير ذلك‏.‏

وجعل لا يزيد على الشهادتين والتوحيد ويكثر أن يقول‏:‏ سبحانك لا إله إلا أنت، عملت سوءاً وظلمت نفسي، فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت‏.‏

وكانت عليه مدرعة سوداء وفي رجليه ثلاثة عشر قيداً، والمدرعة واصلة إلى ركبتيه، والقيود واصلة إلى ركبتيه أيضاً، وكان مع ذلك يصلي في كل يوم وليلة ألف ركعة‏.‏

وكان قبل احتياط الوزير حامد بن العباس عليه في حجرة من دار نصر القشوري الحاجب، مأذوناً لمن يدخل إليه وكان يسمي نفسه تارة بالحسين بن منصور، وتارة محمد بن أحمد الفارسي، وكان نصر الحاجب هذا قد افتتن به وظن أنه رجل صالح، وكان قد أدخله على المقتدر بالله فرقاه من وجع حصل فاتفق زواله عنه، وكذلك وقع لوالدة المقتدر السيدة رقاها فزالت عنها‏.‏

فنفق سوقه وحظي في دار السلطان فلما انتشر الكلام فيه سلم إلى الوزير حامد بن العباس فحبسه في قيود كثيرة في رجليه، وجمع له الفقهاء فأجمعوا على كفره وزندقته، وأنه ساحر ممخرق‏.‏

ورجع عنه رجلان صالحان ممن كان اتبعه، أحدهما أبو علي هارون بن عبد العزيز الأوارجي، والآخر يقال له‏:‏ الدباس، فذكرا من فضائحه وما كان يدعو الناس إليه من الكذب والفجور والمخرفة والسحر شيئاً كثيراً، وكذلك أحضرت زوجة ابنه سليمان فذكرت عنه فضائح كثيرة‏.‏

من ذلك‏:‏ أنه أراد أن يغشاها وهي نائمة فانتبهت فقال‏:‏ قومي إلى الصلاة، وإنما كان يريد أن يطأها‏.‏

وأمر ابنتها بالسجود له فقالت‏:‏ أو يسجد بشر لبشر‏؟‏

فقال‏:‏ نعم إله في السماء وإله في الأرض‏.‏

ثم أمرها أن تأخذ من تحت بارية هنالك ما أرادت، فوجدت تحنها دنانير كثيرة مبدورة‏.‏

ولما كان معتقلاً في دار حامد بن العباس الوزير دخل عليه بعض الغلمان ومعه طبق فيه طعام ليأكل منه، فوجده قد ملأ البيت من سقفه إلى أرضه، فذعر ذلك الغلام وفزع فزعاً شديداً، وألقى ما كان في يده من ذلك الطبق والطعام، ورجع محموماً فمرض عدة أيام‏.‏

ولما كان آخر مجلس من مجالسه أحضر القاضي أبو عمر محمد بن يوسف، وجيء بالحلاج وقد أحضر له كتاب من دور بعض أصحابه وفيه‏:‏ من أراد الحج ولم يتيسر له، فليبن في داره بيتاً لا يناله شيء من النجاسة، ولا يمكن أحداً من دخوله، فإذا كان في أيام الحج فليصم ثلاثة أيام وليطف به كما يطاف بالكعبة، ثم يفعل في داره ما يفعله الحجيج بمكة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 161‏)‏

ثم يستدعي بثلاثين يتيماً فيطعمهم من طعامه، ويتولى خدمتهم بنفسه، ثم يكسوهم قميصاً قميصاً، ويعطي كل واحد منهم سبعة دراهم - أو قال‏:‏ ثلاثة دراهم - فإذا فعل ذلك قام له مقام الحج‏.‏

وإن من صام ثلاثة أيام لا يفطر إلا في اليوم الرابع على ورقات هندبا، أجزأه ذلك عن صيام رمضان‏.‏

ومن صلى في ليلة ركعتين من أول الليل إلى آخره، أجزأه ذلك عن الصلاة بعد ذلك‏.‏

وأن من جاور بمقابر الشهداء وبمقابر قريش عشرة أيام يصلي ويدعو ويصوم، ثم لا يفطر إلا على شيء من خبز الشعير والملح الجريش أغناه ذلك عن العبادة في بقية عمره‏.‏

فقال له القاضي أبو عمر‏:‏ من أين لك هذا‏؟‏

فقال‏:‏ من كتاب الإخلاص للحسن البصري‏.‏

فقال له‏:‏ كذبت يا حلال الدم، قد سمعنا كتاب الإخلاص للحسن بمكة ليس فيه شيء من هذا‏.‏

فأقبل الوزير على القاضي فقال له‏:‏ قد قلت يا حلال الدم فاكتب ذلك في هذه الورقة، وألح عليه وقدم له الدواة فكتب ذلك في تلك الورقة، وكتب من حضر خطوطهم فيها وأنفذها الوزير إلى المقتدر، وجعل الحلاج يقول لهم‏:‏ ظهري حمى ودمي حرام، وما يحل لكم أن تتأولوا عليّ ما يبيحه، واعتقادي الإسلام، ومذهبي السنة، وتفضيل أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن ابن عوف وأبي عبيدة بن الجراح، ولي كتب في السنة موجودة في الوارقين، فالله الله في دمي‏.‏

فلا يلتفتون إليه ولا إلى شيء مما يقول‏.‏

وجعل يكرر ذلك وهم يكتبون خطوطهم بما كان من الأمر‏.‏

ورد الحلاج إلى محبسه، وتأخر جواب المقتدر ثلاثة أيام حتى ساء ظن الوزير حامد بن العباس، فكتب إلى الخليفة يقول له‏:‏ إن أمر الحلاج قد اشتهر ولم يختلف فيه اثنان، وقد افتتن كثير من الناس به‏.‏

فجاء الجواب‏:‏ بأن يسلم إلى محمد بن عبد الصمد صاحب الشرطة، وليضربه ألف سوط، فإن مات وإلا ضربت عنقه‏.‏

ففرح الوزير بذلك وطلب صاحب الشرطة، فسلمه إليه وبعث معه طائفة من غلمانه، يصلونه معه إلى محل الشرطة من الجانب الغربي خوفاً من أن يستنقذ من أيديهم‏.‏

وذلك بعد عشاء الآخرة في ليلة الثلاثاء لست بقين من ذي القعدة من هذه السنة، وهو راكب على بغل عليه إكاف وحوله جماعة من أعوان السياسة على مثل شكله، فاستقر منزله بدار الشرطة في هذه الليلة، فذكر أنه بات يصلي تلك الليلة ويدعو دعاء كثيراً‏.‏

قال أبو عبد الرحمن السلمي‏:‏ سمعت أبا بكر الشاشي يقول‏:‏ قال أبو الحديد - يعني المصري -‏:‏ لما كانت الليلة التي قتل في صبيحتها الحلاج قام يصلي من الليل فصلى ما شاء الله، فلما كان آخر الليل قام قائماً فتغطى بكسائه ومد يده نحو القبلة، فتكلم بكلام جائز الحفظ، فكان مما حفظت منه قوله‏:‏ نحن شواهدك فلو دلتنا عزتك لتبدى ما شئت من شأنك ومشيئتك‏.‏

وأنت الذي في السماء إله وفي الأرض إله تتجلى لما تشاء مثل تجليك في مشيئتك كأحسن الصورة، والصورة فيها الروح الناطقة بالعلم والبيان والقدرة، ثم إني أوعزت إلى شاهدك لأني في ذاتك الهوى كيف أنت إذا مثلت بذاتي عند حلول لذاتي، ودعوت إلى ذاتي بذاتي، وأبديت حقائق علومي ومعجزاتي، صاعداً في معارجي إلى عروش أزلياتي عند التولي عن برياتي، إني احتضرت وقتلت وصلبت وأحرقت واحتملت سافيات الذاريات‏.‏

ولججت في الجاريات، وأن ذرة من ينجوج مكان هالوك متجلياتي، لأعظم من الراسيات‏.‏

ثم أنشأ يقول‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 162‏)‏

أنعى إليك نفوساً طاح شاهدها * فيما ورا الحيث بل في شاهد القدم

أنعى إليك قلوباً طالما هطلت * سحائب الوحى فيها أبحر الحكم

أنعى إليك لسان الحق منك ومن * أودى وتذكاره في الوهم كالعدم

أنعي إليك بياناً يستكين له * أقوال كل فصيح مقول فهم

أنعى إليك إشارات العقول معاً * لم يبق منهن إلا دارس العلم

أنعى وحبك أخلاقاً لطائفة * كانت مطاياهم من مكمد الكظم

مضى الجميع فلا عين ولا أثر * مضى عاد وفقدان الأولى إرم

وخلفوا معشراً يحذون لبستهم * أعمى من البهم بل أعمى من النعم

قالوا‏:‏ ولما أخرج الحلاج من المنزل الذي بات فيه ليذهب به إلى القتل أنشد‏:‏

طلبت المستقر بكل أرض * فلم أر لي بأرض مستقرا

وذقت من الزمان وذاق مني * وجدت مذاقه حلوا ومرا

أطعت مطامعي فاستعبدتني * ولو أني قنعت لعشت حرا

وقيل‏:‏ إنه قالها حين قدم إلى الجذع ليصلب، والمشهور الأول‏.‏

فلما أخرجوه للصلب مشى إليه وهو يتبختر في مشيته، وفي رجليه ثلاثة عشر قيداً وجعل ينشد ويتمايل‏:‏

نديمي غير منسوب * إلى شيء من الحيف

فلما دارت الكأس * دعا بالنطع والسيف

سقاني مثل ما يشر * ب قعل الضيف الضيف

كذا من يشرب الراح * مع التنين في الصيف

ثم قال‏:‏ ‏{‏يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 18‏]‏‏.‏

ثم لم ينطق بعد ذلك حتى فعل به ما فعل‏.‏

قالوا‏:‏ ثم قدم فضرب ألف سوط ثم قطعت يداه ورجلاه وهو في ذلك كله ساكت ما نطق بكلمة، ولم يتغير لونه، ويقال‏:‏ إنه جعل يقول مع كل سوط أحد أحد‏.‏

قال أبو عبد الرحمن‏:‏ سمعت عبد الله بن علي يقول‏:‏ سمعت عيسى القصار يقول‏:‏ آخر كلمة تكلم بها الحلاج حين قتل أن قال‏:‏ حسب الواحد إفراد الواحد له‏.‏

فما سمع بهذه الكلمة أحد من المشايخ إلا رق له، واستحسن هذا الكلام منه‏.‏

وقال السلمي‏:‏ سمعت أبا بكر المحاملي يقول‏:‏ سمعت أبا الفاتك البغدادي - وكان صاحب الحلاج - قال‏:‏ رأيت في النوم بعد ثلاث من قتل الحلاج كأني واقف بين يدي ربي عز وجل، وأنا أقول‏:‏ يا رب ما فعل الحسين بن منصور‏؟‏

فقال‏:‏ كاشفته بمعنى فدعا الخلق إلى نفسه فأنزلت به ما رأيت‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 163‏)‏

ومنهم من قال‏:‏ بل جزع عند القتل جزعاً شديداً وبكى بكاء كثيراً، فالله أعلم‏.‏

وقال الخطيب‏:‏ ثنا عبد الله بن أحمد بن عثمان الصيرفي قال‏:‏ قال لنا أبو عمر بن حيوية‏:‏ لما أخرج الحسين بن منصور الحلاج ليقتل مضيت في جملة الناس، ولم أزل أزاحم حتى رأيته فدنوت منه فقال لأصحابه‏:‏ لا يهولنكم هذا الأمر، فإني عائد إليكم بعد ثلاثين يوماً‏.‏

ثم قتل فما عاد‏.‏

وذكر الخطيب أنه قال وهو يضرب لمحمد بن عبد الصمد والي الشرطة‏:‏ أدع بي إليك فإن عندي نصيحة تعدل فتح القسطنطينية‏.‏

فقال له‏:‏ قد قيل لي إنك ستقول مثل هذا، وليس إلى رفع الضرب عنك سبيل‏.‏

ثم قطعت يداه ورجلاه وحز رأسه وأحرقت جثته وألقى رمادها في دجلة، ونصب الرأس يومين ببغداد على الجسر، ثم حمل إلى خراسان وطيف به في تلك النواحي، وجعل أصحابه يعدون أنفسهم برجوعه إليهم بعد ثلاثين يوماً‏.‏

وزعم بعضهم أنه رأى الحلاج من آخر ذلك اليوم وهو راكب على حمار في طريق النهروان فقال‏:‏ لعلك من هؤلاء النفر الذين ظنوا أني أنا هو المضروب المقتول، إني لست به، وإنما ألقي شبهي على رجل ففعل به ما رأيتم‏.‏

وكانوا بجهلهم يقولون‏:‏ إنما قتل عدو من أعداء الحلاج‏.‏

فذكر هذا لبعض علماء ذلك الزمان فقال‏:‏ إن كان هذا الرأي صادقاً، فقد تبدى له شيطان على صورة الحلاج ليضل الناس به، كما ضلت فرقة النصارى بالمصلوب‏.‏

قال الخطيب‏:‏ واتفق له أن دجلة زادت في هذا العام زيادة كثيرة‏.‏

فقال‏:‏ إنما زادت لأن رماد جثة الحلاج خالطها‏.‏

وللعوام في مثل هذا وأشباهه ضروب من الهذيانات قديماً وحديثاً‏.‏

ونودي ببغداد‏:‏ أن لا تشترى كتب الحلاج ولا تباع‏.‏

وكان قتله يوم الثلاثاء لست بقين من ذي القعدة من سنة تسع وثلاثمائة ببغداد‏.‏

وقد ذكره ابن خلكان في الوفيات، وحكى اختلاف الناس فيه، ونقل عن الغزالي أنه ذكره في مشكاة الأنوار، وتأول كلامه وحمله على ما يليق‏.‏

ثم نقل ابن خلكان عن إمام الحرمين أنه كان يذمه ويقول‏:‏ إنه اتفق هو والجنابي وابن المقفع على إفساد عقائد الناس، وتفرقوا في البلاد فكان الجنابي في هجر والبحرين، وابن المقفع ببلاد الترك، ودخل الحلاج العراق، فحكم صاحباه عليه بالهلكة لعدم انخداع أهل العراق بالباطل‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ وهذا لا ينتظم، فإن ابن المقفع كان قبل الحلاج بدهر في أيام السفاح والمنصور، ومات سنة خمس وأربعين ومائتين أو قبلها‏.‏

ولعل إمام الحرمين أراد ابن المقفع الخراساني الذي ادعى الربوبية وأوتي العمر واسمه عطاء، وقد قتل نفسه بالسم في سنة ثلاث وستين ومائة، ولا يمكن اجتماعه مع الحلاج أيضاً، وإن أردنا تصحيح كلام إمام الحرمين فنذكر ثلاثة قد اجتمعوا في وقت واحد على إضلال الناس وإفساد العقائد كما ذكر، فيكون المراد بذلك الحلاج وهو الحسين بن منصور الذي ذكره، وابن السمعاني - يعني أبا جعفر محمد بن علي - وأبو طاهر سليمان بن أبي سعيد الحسن بن بهرام الجنابي القرمطي الذي قتل الحجاج، وأخذ الحجر الأسود وطم زمزم ونهب أستار الكعبة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 164‏)‏

فهؤلاء يمكن اجتماعهم في وقت واحد كما ذكرنا ذلك مبسوطاً، وذكره ابن خلكان ملخصاً‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 أبو العباس بن عطاء أحد أئمة الصوفية

وهو أحمد بن محمد بن عطاء الأدمي‏.‏

حدث عن يوسف بن موسى القطان، والمفضل بن زياد وغيرهما، وقد كان موافقاً للحلاج في بعض اعتقاده على ضلاله، وكان أبو العباس هذا يقرأ في كل يوم ختمة، فإذا كان شهر رمضان قرأ في كل يوم وليلة ثلاث ختمات، وكان له ختمة يتدبرها ويتدبر معاني القرآن فيها‏.‏

فمكث فيها سبعة عشرة سنة، ومات ولم يختمها، وهذا الرجل ممن كان اشتبه عليه أمر الحلاج وأظهر موافقته فعاقبه الوزير حامد بن العباس بالضرب البليغ على شدقيه، وأمر بنزع خفيه وضربه بهما على رأسه حتى سال الدم من منخريه، ومات بعد سبعة أيام من ذلك، وكان قد دعا على الوزير بأن تقطع يداه ورجلاه ويقتل شر قتلة‏.‏

فمات الوزير بعد مدة كذلك‏.‏

وفيها‏:‏ توفي أبو إسحاق إبراهيم بن هارون الطبيب الحراني‏.‏

 وأبو محمد عبد الله بن حمدون النديم‏.‏

 ثم دخلت سنة عشر وثلاثمائة

فيها‏:‏ أطلق يوسف بن أبي الساج من الضيق، وكان معتقلاً، وردت إليه أمواله وأعيد إلى عمله وأضيف إليه بلدان أخرى، ووظف عليه في كل سنة خمسمائة ألف دينار يحملها إلى الحضرة، فبعث حينئذ إلى مؤنس الخادم يطلب منه أبا بكر بن الأدمي القارئ، وكان قد قرأ بين يديه حين اعتقل في سنة إحدى وستين ومائتين ‏{‏وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 102‏]‏‏.‏

فخاف القارئ من سطوته واستعفى من مؤنس الخادم فقال له مؤنس‏:‏ اذهب وأنا شريكك في الجائزة‏.‏

فلما دخل عليه قرأ بين يديه‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 54‏]‏‏.‏

فقال‏:‏ بل أحب أن تقرأ ذلك العشر الذي قرأته عند سجني وإشهاري ‏{‏وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 102‏]‏‏.‏

فإن ذلك كان سبب توبتي ورجوعي إلى الله عز وجل، وكان ذلك على يديك‏.‏

ثم أمر له بمال جزيل وأحسن إليه‏.‏

وفيها‏:‏ مرض علي بن عيسى الوزير فجاءه هارون بن المقتدر ليعوده ويبلغه سلام أبيه عليه، فبسط له الطريق، فلما اقترب من داره تحامل وخرج إليه فبلغه سلام الخليفة، وجاء مؤنس الخادم معه، ثم جاء الخبر بأن الخليفة قد عزم على عيادته فاستعفى من مؤنس الخادم، ثم ركب على جهد عظيم حتى سلم على الخليفة لئلا يكلفه الركوب إليه‏.‏

وفيها‏:‏ قبض على القهرمانة أم موسى ومن ينسب إليها، وكان حاصل ما حمل إلى بيت المال من جهتها ألف ألف دينار‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 165‏)‏

وفي يوم الخميس منها لعشر بقين من ربيع الآخر ولى المقتدر منصب القضاء أبا الحسين عمر بن الحسين بن علي الشيباني المعروف بابن الاشناني - وكان من حفاظ الحديث وفقهاء الناس - ولكنه عزل بعد ثلاثة أيام، وكان قبل ذلك محتسباً ببغداد‏.‏

وفيها‏:‏ عزل محمد بن عبد الصمد عن شرطة بغداد ووليها نازوك وخلع عليه‏.‏

وفيها‏:‏ في جمادى الآخرة فيها ظهر كوكب له ذنب طوله ذراعان في برج السنبلة‏.‏

وفي شعبان منه وصلت هدايا نائب مصر وهو الحسين بن المادراني، وفي جملتها بغلة معها فلوها، وغلام يصل لسانه إلى طرف أنفه‏.‏

وفيها‏:‏ قرئت الكتب على المنابر بما كان من الفتوح على المسلمين ببلاد الروم‏.‏

وفيها‏:‏ ورد الخبر بأنه انشق بأرض واسط فلوع في الأرض في سبعة عشر موضعاً أكبرها طوله ألف ذراع، وأقلها مائتا ذراع، وأنه غرق من أمهات القرى ألف وثلاثمائة قرية‏.‏

وحج بالناس إسحاق بن عبد الملك الهاشمي‏.‏

 وممن توفي فيها من الأعيان‏:‏

 أبو بشر الدولابي

محمد بن أحمد بن حماد أبو سعيد أبو بشر الدولابي، مولى الأنصار، ويعرف بالوراق، أحد الأئمة من حفاظ الحديث، وله تصانيف حسنة في التاريخ وغير ذلك، وروى عن جماعة كثيرة‏.‏

قال ابن يونس‏:‏ كان يصعق، توفي وهو قاصد الحج بين مكة والمدينة بالعرج في ذي القعدة‏.‏

وفيها توفي‏:‏

 أبو جعفر بن جرير الطبري

محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الإمام أبو جعفر الطبري، وكان مولده في سنة أربع وعشرين ومائتين، وكان أسمر أعين مليح الوجه مديد القامة فصيح اللسان، وروى الكثير عن الجم الغفير، ورحل إلى الآفاق في طلب الحديث، وصنف التاريخ الحافل، وله التفسير الكامل الذي لا يوجد له نظير، وغيرهما من المصنفات النافعة في الأصول والفروع‏.‏

ومن أحسن ذلك ‏(‏تهذيب الآثار‏)‏ ولو كمل لما احتيج معه إلى شيء، ولكان فيه الكفاية لكنه لم يتمه‏.‏

وقد روي عنه أنه مكث أربعين سنة يكتب في كل يوم أربعين ورقة‏.‏

قال الخطيب البغدادي‏:‏ استوطن ابن جرير بغداد وأقام بها إلى حين وفاته، وكان من أكابر أئمة العلماء، ويحكم بقوله ويرجع إلى معرفته وفضله، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 166‏)‏ وكان حافظاً لكتاب الله، عارفاً بالقراءات كلها، بصيراً بالمعاني، فقيهاً في الأحكام، عالماً بالسنن وطرقها، وصحيحها وسقيمها، وناسخها ومنسوخها، عارفاً بأقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم، عارفاً بأيام الناس وأخبارهم‏.‏

وله الكتاب المشهور في تاريخ الأمم والملوك، وكتاب في التفسير لم يصنف أحد مثله‏.‏

وكتاب سماه ‏(‏تهذيب الآثار‏)‏لم أر سواه في معناه، إلا أنه لم يتمه‏.‏

وله في أصول الفقه وفروعه كتب كثيرة واختيارات، وتفرد بمسائل حفظت عنه‏.‏

قال الخطيب‏:‏ وبلغني عن الشيخ أبي حامد أحمد بن أبي طاهر الفقيه الأسفرائيني أنه قال‏:‏ لو سافر رجل إلى الصين حتى ينظر في كتاب تفسير ابن جرير الطبري لم يكن ذلك كثيراً، أو كما قال‏.‏

وروى الخطيب عن إمام الأئمة أبي بكر بن خزيمة أنه طالع تفسير محمد بن جرير في سنين من أوله إلى آخره، ثم قال‏:‏ ما أعلم على أديم الأرض أعلم من ابن جرير، ولقد ظلمته الحنابلة‏.‏

وقال محمد لرجل رحل إلى بغداد يكتب الحديث عن المشايخ -ولم يتفق له سماع من ابن جرير لأن الحنابلة كانوا يمنعون أن يجتمع به أحد - فقال ابن خزيمة‏:‏ لو كتبت عنه لكان خيراً لك من كل من كتبت عنه‏.‏

قلت‏:‏ وكان من العبادة والزهادة والورع والقيام في الحق لا تأخذه في ذلك لومة لائم، وكان حسن الصوت بالقراءة مع المعرفة التامة بالقراءات على أحسن الصفات، وكان من كبار الصالحين، وهو أحد المحدثين الذين اجتمعوا في مصر في أيام ابن طولون، وهم محمد بن إسحاق بن خزيمة إمام الأئمة، ومحمد بن نصر المروزي، ومحمد بن هارون الروياني، ومحمد بن جرير الطبري هذا‏.‏

وقد ذكرناهم في ترجمة محمد بن نصر المروزي، وكان الذي قام فصلى هو محمد بن إسحاق بن خزيمة، وقيل‏:‏ محمد بن نصر، فرزقهم الله‏.‏

وقد أراد الخليفة المقتدر في بعض الأيام أن يكتب كتاب وقف تكون شروطه متفقاً عليها بين العلماء، فقيل له‏:‏ لا يقدر على استحضار ذلك إلا محمد بن جرير الطبري، فطلب منه ذلك فكتب له، فاستدعاه الخليفة إليه وقرب منزلته عنده‏.‏

وقال له‏:‏ سل حاجتك‏.‏

فقال‏:‏ لا حاجة لي‏.‏

فقال‏:‏ لا بد أن تسألني حاجة أو شيئاً‏.‏

فقال‏:‏ أسأل من أمير المؤمنين أن يتقدم أمره إلى الشرطة حتى يمنعوا السؤَّال يوم الجمعة أن يدخلوا إلى مقصورة الجامع‏.‏

فأمر الخليفة بذلك‏.‏

وكان ينفق على نفسه من مغل قرية تركها له أبوه بطبرستان‏.‏

ومن شعره‏:‏

إذا أعسرت لم يعلم رفيقي * وأستغني فيستغني صديقي

حيائي حافظ لي ماء وجهي * ورفقي في مطالبتي رفيقي

ولو أني سمحت ببذل وجهي * لكنت إلى الغنى سهل الطريق

ومن شعره أيضاً‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 167‏)‏

خُلُقان لا أرضى طريقهما * بطر الغنى ومذلة الفقر

فإذا غنيت فلا تكن بطراً * وإذا افتقرت فته على الدهر

وقد كانت وفاته وقت المغرب عشية يوم الأحد ليومين بقيا من شوال من سنة عشر وثلاثمائة‏.‏

وقد جاوز الثمانين بخمس سنين أو ست سنين، وفي شعر رأسه ولحيته سواد كثير، ودفن في داره لأن بعض عوام الحنابلة ورعاعهم منعوا من دفنه نهاراً ونسبوه إلى الرفض، ومن الجهلة من رماه بالإلحاد، وحاشاه من ذلك كله‏.‏

بل كان أحد أئمة الإسلام علماً وعملاً بكتاب الله وسنة رسوله، وإنما تقلدوا ذلك عن أبي بكر محمد بن داود الفقيه الظاهري، حيث كان يتكلم فيه ويرميه بالعظائم وبالرفض‏.‏

ولما توفي اجتمع الناس من سائر أقطار بغداد وصلوا عليه بداره ودفن بها، ومكث الناس يترددون إلى قبره شهوراً يصلون عليه، وقد رأيت له كتاباً جمع فيه أحاديث غدير خم في مجلدين ضخمين، وكتاباً جمع فيه طريق حديث الطير‏.‏

ونسب إليه أنه كان يقول بجواز مسح القدمين في الوضوء وأنه لا يوجب غسلهما، وقد اشتهر عنه هذا‏.‏

فمن العلماء من يزعم أن ابن جرير اثنان أحدهما شيعي وإليه ينسب ذلك، وينزهون أبا جعفر هذا عن هذه الصفات‏.‏

والذي عول عليه كلامه في التفسير أنه يوجب غسل القدمين ويوجب مع الغسل دلكهما، ولكنه عبر عن الدلك بالمسح، فلم يفهم كثير من الناس مراده، ومن فهم مراده نقلوا عنه أنه يوجب الغسل والمسح وهو الدلك والله أعلم‏.‏

وقد رثاه جماعة من أهل العلم منهم ابن الأعرابي حيث يقول‏:‏

حدث مفظع وخطب جليل * دق عن مثله اصطبار الصبور

قام ناعي العلوم اجمع لما * قام ناعي محمد بن جرير

فهوت أنجم لها زاهرات * مؤذنات رسومها بالدثور

وتغشى ضياها النير الإشـ * ـراق ثوب الدّجنّة الديجور

وغدا روضها الأنيق هشيماً * ثم عادت سهولها كالوعور

يا أبا جعفر مضيت حميداً * غير وانٍ في الجد والتشمير

بين أجر على اجتهادك موفو * ر وسعي إلى التقى مشكور

مستحقّاً به الخلود لدى جن * ة عدن في غبطة وسرور

ولأبي بكر بن دريد رحمه الله فيه مرثاة طويلة، وقد أوردها الخطيب البغدادي بتمامها‏.‏

والله سبحانه أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 168‏)‏

 ثم دخلت سنة إحدى عشرة وثلاثمائة

فيها دخل أبو طاهر سليمان بن أبي سعيد الجنابي أمير القرامطة في ألف وسبعمائة فارس إلى البصرة ليلاً، نصب السلالم الشعر في سورها فدخلها قهراً وفتحوا أبوابها وقتلوا من لقوه من أهلها، وهرب أكثر الناس فألقوا أنفسهم في الماء فغرق كثير منهم، ومكث بها سبعة عشر يوماً يقتل ويأسر من نسائها وذراريها، ويأخذ ما يختار من أموالها‏.‏

ثم عاد إلى بلده هجر، كلما بعث إليه الخليفة جنداً من قبله فرّ هارباً وترك البلد خاوياً، إنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وفيها‏:‏ عزل المقتدر عن الوزارة حامد بن العباس وعلي بن عيسى وردها إلى أبي الحسن بن الفرات مرة ثالثة، وسلم إليه حامداً وعلي بن عيسى، فأما حامد فإن المحسن بن الوزير ضمنه من المقتدر بخمسمائة ألف ألف دينار، فتسلمه فعاقبه بأنواع العقوبات، وأخذ منه أموالاً جزيلة لا تحصى ولا تعد كثرة، ثم أرسله مع موكلين عليه إلى واسط ليحتاطوا على أمواله وحواصله هناك، وأمرهم أن يسقوه سماً في الطريق فسقوه ذلك في بيض مشوي كان قد طلبه منهم، فمات في رمضان من هذه السنة‏.‏

وأما علي بن عيسى فإنه صودر بثلاثمائة ألف دينار وصودر قوم آخرون من كتابه، فكان جملة ما أخذ من هؤلاء مع ما كان صودرت به القهرمانة من الذهب شيئاً كثيراً جداً آلاف ألف من الدنانير، وغير ذلك من الأثاث والأملاك والدواب والآنية من الذهب والفضة‏.‏

وأشار الوزير ابن الفرات على الخليفة المقتدر بالله أن يبعد عنه مؤنس الخادم إلى الشام - وكان قد قدم من بلاد الروم من الجهاد، وقد فتح شيئاً كثيراً من حصون الروم وبلدانهم، وغنم مغانم كثيرة جداً - فأجابه إلى ذلك، فسأل مؤنس الخليفة أن ينظره إلى سلخ شهر رمضان، وكان مؤنس من أعلم بما يعتمده ابن الوزير من تعذيب الناس ومصادرتهم بالأموال، فأمر الخليفة مؤنساً بالخروج إلى الشام‏.‏

وفيها‏:‏ كثر الجراد وأفسد كثيراً من الغلات‏.‏

وفي رمضان منها أمر الخليفة برد ما فضل من المواريث على ذوي الأرحام‏.‏

وفي رمضان أحرق بالنار على باب العامة مائتين وأربعة أعدال من كتب الزنادقة، منها ما كان صنفه الحلاج وغيره، فسقط منها ذهب كثير كانت محلاة به‏.‏

وفيها‏:‏ اتخذ أبو الحسن بن الفرات الوزير مرستاناً في درب الفضل، وكان ينفق عليه من ماله في كل شهر مائتي دينار‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 الخلال أحمد بن محمد بن هاون

أبو بكر الخلال، صاحب الكتاب الجامع لعلوم الإمام أحمد، ولم يصنف في مذهب الإمام أحمد مثل هذا الكتاب، وقد سمع الخلال الحديث من الحسن بن عرفة وسعدان بن نصر وغيرهما‏.‏

توفي يوم الجمعة قبل الصلاة ليومين مضتا من هذه السنة‏.‏

 أبو محمد الجريري

أحد أئمة الصوفية أحمد بن محمد بن الحسين أبو محمد الجريري أحد كبار الصوفية، صحب سرياً السقطي، وكان الجنيد يكرمه ويحترمه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 169‏)‏

ولما حضرت الجنيد الوفاة أوصى أن يجالس الجريري، وقد اشتبه على الجريري هذا شأن الحلاج فكان ممن أجمل القول فيه، على أن الجريري هذا مذكور بالصلاح والديانة وحسن الأدب‏.‏

 الزجاج صاحب معاني القرآن

إبراهيم بن السري بن سهل أبو إسحاق الزجاج، كان فاضلاً ديناً حسن الاعتقاد، وله المصنفات الحسنة، منها كتاب ‏(‏معاني القرآن‏)‏ وغيره من المصنفات العديدة المفيدة، وقد كان أول أمره يخرط الزجاج فأحب علم النحو فذهب إلى المبرّد، وكان يعطي المبرّد كل يوم درهماً، ثم استغنى الزجاج وكثر ماله ولم يقطع عن المبرد ذلك الدرهم حتى مات‏.‏

وقد كان الزجاج مؤدباً للقاسم بن عبيد الله، فلما ولي الوزارة كان الناس يأتونه بالرقاع ليقدمها إلى الوزير، فحصل له بسبب ذلك ما يزيد على أربعين ألف دينار‏.‏

توفي في جمادى الأولى منها‏.‏

وعنه أخذ أبو علي الفارسي النحوي، وابن القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي، نسب إليه لأخذه عنه، وهو صاحب كتاب ‏(‏الجمل في النحو‏)‏‏.‏

 بدر مولى المعتضد

وهو بدر الحمامي، ويقال له‏:‏ بدر الكبير، كان في آخر وقت على نيابة فارس، ثم وليها من بعده ولده محمد‏.‏

 حامد بن العباس

الوزير استوزره المقتدر في سنة ست وثلاثمائة، وكان كثير المال والغلمان، كثير النفقات كريماً سخياً، كثير المروءة‏.‏

له حكايات تدل على بذله وإعطائه الأموال الجزيلة، ومع هذا كان قد جمع شيئاً كثيراً، وجد له في مطمورة ألوف من الذهب، كان كل يوم إذا دخلها ألقى فيها ألف دينار، فلما امتلأت طمها، فلما صودر دل عليها فاستخرجوا منها مالاً كثيراً جداً‏.‏

ومن أكبر مناقبه أنه كان من السعاة في قتل الحسين الحلاج كما ذكرنا ذلك‏.‏

توفي الوزير حامد بن العباس في رمضان منها مسموماً‏.‏

وفيها توفي‏:‏ عمر بن محمد بجير البجيري صاحب الصحيح‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 170‏)‏

 ابن خزيمة

محمد بن إسحاق بن خزيمة بن المغيرة بن صالح بن بكر السلمي، مولى محسن بن مزاحم الإمام أبو بكر بن خزيمة الملقب بإمام الأئمة، كان بحراً من بحور العلم، طاف البلاد ورحل إلى الآ فاق في الحديث وطلب العلم، فكتب الكثير وصنف وجمع، وكتابه الصحيح من أنفع الكتب وأجلها، وهو من المجتهدين في دين الإسلام، حكى الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في طبقات الشافعية عنه أنه قال‏:‏ ما قلدت أحداً منذ بلغت ستة عشر سنة، وقد ذكرنا له ترجمة مطولة في كتابنا طبقات الشافعية‏.‏

وهو أحد المحمدين الذين أرملوا بمصر ثم رزقهم الله ببركة صلاته‏.‏

وقد ذكرنا نحو ذلك في ترجمة الحسن بن سفيان‏.‏

وفيها توفي‏:‏ محمد بن زكريا الطبيب صاحب المصنف الكبير في الطب‏.‏

 ثم دخلت سنة ثنتي عشرة وثلاثمائة

في المحرم منها اعترض القرمطي أبو طاهر الحسين بن أبي سعيد الجنابي لعنه الله ولعن أباه للحجيج وهم راجعون من بيت الله الحرام، قد أدوا فرض الله عليهم، فقطع عليهم الطريق فقاتلوه دفعاً عن أموالهم وأنفسهم وحريمهم، فقتل منهم خلقاً كثيراً لا يعلمهم إلا الله، وأسر من نسائهم وأبنائهم ما اختاره، واصطفى من أموالهم ما أراد، فكان مبلغ ما أخذه من أموال ما يقاوم ألف ألف دينار، ومن الأمتعة والمتاجر نحو ذلك، وترك بقية الناس بعد ما أخذ جمالهم وزادهم وأموالهم ونساءهم وأبناءهم على بعد الديار في تلك الفيافي والبرية بلا ماء ولا زاد ولا محمل‏.‏

وقد جاحف عن الناس نائب الكوفة أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان فهزمه وأسره‏.‏

إنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وكان عدة من مع القرمطي ثمانمائة مقاتل، وعمره إذ ذاك سبع عشرة سنة قصمه الله‏.‏

ولما انتهى خبرهم إلى بغداد قام نساؤهم وأهاليهم في النياحة ونشرن شعورهن ولطمن خدودهن، وانضاف إليهن نساء الذين نكبوا على يد الوزير وابنه، وكان ببغداد يوم مشهود بسبب ذلك في غاية البشاعة والشناعة، فسأل الخليفة عن الخبر فذكروا له أنهم نسوة الحجيج ومعهن نساء الذين صادرهم ابن الفرات، وجاءت على يد الحاجب نصر بن القشوري على الوزير فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إنما استولى هذا القرمطي على ما استولى عليه بسبب إبعادك مؤنس الخادم المظفر، فطمع هؤلاء في الأطراف، وما أشار عليك بإبعاده إلا ابن الفرات‏.‏

فبعث الخليفة إلى ابن الفرات يقول له‏:‏ إن الناس يتكلمون فيك لنصحك إياي‏.‏

وأرسل يطيب قلبه، فركب هو وولده إلى الخليفة فدخلا عليه فأكرمهما وطيب قلوبهما، فخرجا من عنده فنالهما أذى كثير من نصر الحاجب وغيره من كبار الأمراء، وجلس، الوزير في دسته فحكم بين الناس كعادته، وبات ليلته تلك مفكراً في أمره، وأصبح كذلك وهو ينشد‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 171‏)‏

فأصبح لا يدري وإن كان حازماً * أقدامه خير له أم داره‏؟‏

ثم جاءه في ذلك اليوم أميران من جهة الخليفة، فدخلا عليه داره إلى بين حريمه وأخرجوه مكشوفاً رأسه وهو في غاية الذل والصغار، والإهانة والعار، فأركبوه في حراقة إلى الجانب الآخر‏.‏

وفهم الناس ذلك فرجموا ابن الفرات بالآجر، وتعطلت الجوامع وخربت العامة المحاريب، ولم يصلِّ الناس الجمعة فيها، وأخذ خط الوزير بألفي ألف دينار، وأخذ خط ابنه بثلاثة آلاف ألف دينار، وسلما إلى نازوك أمير الشرطة، فاعتقلا حيناً حتى خلصت منهما الأموال، ثم أرسل الخليفة خلف مؤنس الخادم، فلما قدم سلمهما إليه فأهانهما غاية الإهانة بالضرب والتقريع له ولولده المجرم الذي ليس بمحسن، ثم قتلا بعد ذلك‏.‏

واستوزر عبد الله بن محمد بن عبيد الله بن محمد بن يحيى بن خاقان أبو القاسم، وذلك في تاسع ربيع الأول منها‏.‏

ولما دخل مؤنس بغداد دخل في تجمل عظيم، وشفع عند ابن خاقان في أن يرسل إلى علي بن عيسى - وكان قد صار إلى صنعاء اليمن مطروداً - فعاد إلى مكة وبعث إليه الوزير أن ينظر في أمر الشام ومصر، وأمر الخليفة مؤنس الخادم بأن يسير إلى الكوفة لقتال القرامطة، وأنفق على خروجه ألف ألف دينار، وأطلق القرمطي من كان أسره من الحجيج، وكانوا ألفي رجل وخمسمائة امرأة، وأطلق أبا الهيجاء نائب الكوفة معهم أيضاً‏.‏

وكتب إلى الخليفة يسأل منه البصرة والأهواز فلم يجب إلى ذلك، وركب المظفر مؤنس في جحافل إلى بلاد الكوفة فسكن أمرها، ثم انحدر منها إلى واسط واستناب على الكوفة ياقوت الخادم، فتمهدت الأمور وانصلحت‏.‏

وفي هذه السنة ظهر رجل بين الكوفة وبغداد فادعى أنه محمد بن إسماعيل بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وصدقه على ذلك طائفة من الأعراب والطغام، والتفوا عليه وقويت شوكته في شوال، فأرسل إليه الوزير جيشاً فقاتلوه فهزموه وقتلوا خلقاً من أصحابه، وتفرق بقيتهم‏.‏

وهذا المدعي المذكور هو رئيس الإسماعيلية وهو أولهم‏.‏

وظفر نازوك صاحب الشرطة بثلاثة من أصحاب الحلاج‏:‏ وهم حيدرة، والشعراني، وابن منصور، فطالبهم بالرجوع عن اعتقادهم فيه فلم يرجعوا، فضرب رقابهم وصلبهم في الجانب الشرقي‏.‏

ولم يحج في هذه السنة أحد من أهل العراق لكثرة خوف الناس من القرامطة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 172‏)‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 إبراهيم بن خميس

أبو إسحاق الواعظ الزاهد، كان يعظ الناس، فمن جملة كلامه الحسن قوله‏:‏ يضحك القضاء من الحذر، ويضحك الأجل من الأمل، ويضحك التقدير من التدبير، وتضحك القسمة من الجهد والعناء‏.‏

 علي بن محمد بن الفرات

ولاه المقتدر الوزارة ثم عزله ثم ولاه ثم عزله ثم ولاه ثم عزله ثم ولاه ثم عزله ثم ولاه ثم قتله في هذه السنة، وقتل ولده، وكان ذا مال جزيل‏:‏ ملك عشرة آلاف ألف دينار، وكان يدخل له من ضياعه كل سنة ألف ألف دينار، وكان ينفق على خمسة آلاف من العباد والعلماء، تجري عليهم نفقات في كل شهر ما فيه كفايتهم، وكان له معرفة بالوزارة والحساب، يقال‏:‏ إنه نظر يوماً في ألف كتاب ووقع على ألف رقعة، فتعجب من حضره من ذلك، وكانت فيه مروءة وكرم وحسن سيرة في ولاياته، غير هذه المرة فإنه ظلم وغشم وصادر الناس وأخذ أموالهم، فأخذه الله أخذ القرى وهي ظالمة، أخذ عزيز مقتدر‏.‏

وقد كان ذا كرم وسعة في النفقة، ذاكر عنده ذات ليلة أهل الحديث والصوفية وأهل الأدب، فأطلق من ماله لكل طائفة عشرين ألفاً‏.‏

وكتب رجل على لسانه إلى نائب مصر كتاباً فيه وصية به منه إليه، فلما دفع المكتوب إلى نائب مصر استراب منه وقال‏:‏ ما هذا خط الوزير‏.‏

وأرسل به إلى الوزير، فلما وقف عليه عرف أنه كذب وزور، فاستشار الحاضرين عنده فيما يفعل بالذي زور عليه، فقال بعضهم‏:‏ تقطع يديه‏.‏

وقال آخر‏:‏ تقطع إبهاميه‏.‏

وقال آخر‏:‏ يضرب ضرباً مبرحاً‏.‏

فقال الوزير‏:‏ أوَ خير من ذلك كله‏؟‏

ثم أخذ الكتاب وكتب عليه‏:‏ نعم هذا خطي وهو من أخص أصحابي، فلا تتركن من الخير شيئاً مما تقدر عليه إلا أوصلته إليه‏.‏

فلما عاد الكتاب أحسن نائب مصر إلى ذلك الرجل إحساناً بالغاً، ووصله بنحو من شعرين ألف دينار‏.‏

واستدعى ابن الفرات يوماً ببعض الكتّاب فقال له‏:‏ ويحك إن نيتي فيك سيئة، وإني في كل وقت أريد أن أقبض عليك وأصادرك، فأراك في المنام تمنعني برغيف، وقد رأيتك في المنام من ليالٍ، وإني أريد القبض عليك، فجعلت تمتنع مني، فأمرت جندي أن يقاتلوك، فجعلوا كلما ضربوك بشيء من سهام وغيرها تتقي الضرب برغيف في يدك، فلا يصل إليك شيء، فأعلمني ما قصة هذا الرغيف‏.‏

فقال‏:‏ أيها الوزير إن أمي منذ كنت صغيراً كل ليلة تضع تحت وسادتي رغيفاً، فإذا أصبحت تصدقت به عني، فلم يزل كذلك دأبها حتى ماتت‏.‏

فلما ماتت فعلت أنا ذلك مع نفسي، فكل ليلة أضع تحت وسادتي رغيفاً ثم أصبح فأتصدق به‏.‏

فعجب الوزير من ذلك وقال‏:‏ والله لا ينالك مني بعد اليوم سوء أبداً، ولقد حسنت نيتي فيك، وقد أحببتك‏.‏

وقد أطال ابن خلكان ترجمته فذكر بعض ما أوردنا في ترجمته‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 173‏)‏

محمد بن محمد بن سليمان بن الحارث بن عبد الرحمن

أبو بكر الأزدي الواسطي، المعروف بالباغندي، سمع محمد بن عبد الله بن نمير، وابن أبي شيبة وشيبان بن فروخ، علي بن المديني، وخلقاً من أهل الشام ومصر والكوفة والبصرة وبغداد، ورحل إلى الأمصار البعيدة، وعني بهذا الشأن واشتغل فيه فأفرط، حتى قيل‏:‏ إنه ربما سرد بعض الأحاديث بأسانيدها في الصلاة والنوم وهو لا يشعر، فكانوا يسبحون به حتى يتذكر أنه في الصلاة، وكان يقول‏:‏ أنا أجيب في ثلاثمائة ألف مسألة من الحديث لا أتجاوزه إلى غيره‏.‏

وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه فقال له‏:‏ يا رسول الله أيما أثبت في الأحاديث منصور أو الأعمش‏؟‏

فقال له‏:‏ منصور‏.‏

وقد كان يعاب بالتدليس حتى قال الدارقطني‏:‏ هو كثير التدليس، يحدث بما لم يسمع، وربما سرق بعض الأحاديث والله أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة

قال ابن الجوزي‏:‏ في ليلة بقيت من المحرم انقض كوكب من ناحية الجنوب إلى الشمال قبل مغيب الشمس، فأضاءت الدنيا منه وسمع له صوت كصوت الرعد الشديد‏.‏

وفي صفر منها بلغ الخليفة أن جماعة من الرافضة يجتمعون في مسجد براثى فينالون من الصحابة ولا يصلون الجمعة، ويكاتبون القرامطة ويدعون إلى محمد بن إسماعيل الذي ظهر بين الكوفة وبغداد، ويدّعون أنه المهدي، ويتبرؤون من المقتدر وممن تبعه‏.‏

فأمر بالاحتياط عليهم واستفتى العلماء بالمسجد فأفتوا بأنه مسجد ضرار، فضرب من قدر عليه منهم الضرب المبرح ونودي عليهم‏.‏

وأمر بهدم ذلك المسجد المذكور فهدم هدمه نازوك، وأمر الوزير الخاقاني فجعل مكانه مقبرة فدفن فيها جماعة من الموالي‏.‏

وخرج الناس للحج في ذي القعدة فاعترضهم أبو طاهر سليمان بن أبي سعيد الجنابي القرمطي، فرجع أكثر الناس إلى بلدانهم، ويقال‏:‏ إن بعضهم سأل منه الأمان ليذهبوا فأمنهم‏.‏

وقد قاتله جند الخليفة فلم يفد ذلك شيئاً لتمرده وشدة بأسه، فانزعج أهل بغداد من ذلك، وترحل أهل الجانب الغربي إلى الجانب الشرقي خوفاً منهم، ودخل القرمطي إلى الكوفة فأقام بها شهراً يأخذ من أموالها ونسائها ما يختار‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وكثر الرطب في هذه السنة ببغداد حتى بيع كل ثمانية أرطال بحبة، وعمل منه تمر وحمل إلى البصرة‏.‏

وعزل المقتدر وزيره الخاقاني بعد أن ولاه سنة وستة أشهر ويومين، وولى مكانه أبا القاسم أحمد بن عبيد الله بن أحمد بن الخطيب الخصيبي، لأجل مال بذله من جهة زوجة للحسن بن الفرات، وكان ذلك المال سبعمائة ألف دينار، فأمر الخصيبي علي بن عيسى على أن يكون مشرفاً على ديار مصر وبلاد الشام، وهو مقيم بمكة يسير إلى تلك البلاد في بعض الأوقات فيعمل ما ينبغي ثم يرجع إلى مكة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 174‏)‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 علي بن عبد الحميد بن عبد الله بن سليمان

أبو الحسن الغضائري، سمع القواريري وعباساً العنبري، وكان من العباد الثقات‏.‏

قال‏:‏ جئت يوماً إلى السري السقطي فدققت عليه بابه، فخرج إلي ووضع يده على عضادتي الباب وهو يقول‏:‏ اللهم اشغل من شغلني عنك بك‏.‏

قال‏:‏ فنالتني بركة هذه الدعوة فحججت على قدميّ من حلب إلى مكة أربعين حجة ذاهباً وآيباً‏.‏

 أبو العباس السراج الحافظ

محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن مهران بن عبد الله الثقفي مولاهم، أبو العباس السراج، أحد الأئمة الثقات الحفاظ، مولده سنة ثمان عشرة ومائتين، سمع قتيبة واسحق بن راهوية وخلقاً كثيراً من أهل خراسان وبغداد والكوفة والبصرة والحجاز، وقد حدث عنه البخاري ومسلم، وهما أكبر منه وأقدم ميلاداً ووفاة‏.‏

وله مصنفات كثيرة نافعة جداً، وكان يعد من مجابي الدعوة‏.‏

وقد رأى في منامه كأنه يرقى في سلم فصعد فيه تسعاً وتسعين درجة، فما أولها على أحد إلا قال له‏:‏ تعيش تسعاً وتسعين سنة، فكان كذلك‏.‏

وقد ولد له ابنه أبو عمر وعمره ثلاث وثمانون سنة‏.‏

قال الحاكم‏:‏ فسمعت أبا عمرو يقول‏:‏ كنت إذا دخلت المسجد على أبي والناس عنده يقول لهم‏:‏ هذا عملته في ليلة ولي من العمر ثلاث وثمانون سنة‏.‏

 ثم دخلت سنة أربع عشرة وثلاثمائة

فيها كتب ملك الروم، وهو الدمستق لعنه الله، إلى أهل السواحل أن يحملوا إليه الخراج، فأبوا عليه فركب إليهم في جنوده في أول هذه السنة، فعاث في الأرض فساداً، ودخل ملطية فقتل من أهلها خلقاً وأسر وأقام بها ستة عشر يوماً، وجاء أهلها إلى بغداد يستنجدون الخليفة عليه‏.‏

ووقع في بغداد حريق في مكانين، مات فيهما خلق كثير، وأحرق في أحدهما ألف دار ودكان، وجاءت الكتب بموت الدمستق ملك النصارى فقرئت الكتب على المنابر‏.‏

وجاءت الكتب من مكة أنهم في غاية الانزعاج بسبب اقتراب القرامطة إليهم وقصدهم إياهم، فرحلوا منها إلى الطائف وتلك النواحي‏.‏

وفيها‏:‏ هبت ريح عظيمة بنصيبين اقتلعت أشجاراً كثيرة وهدمت البيوت‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 175‏)‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وفي يوم الأحد لثمان مضين من شوال منها - وهو سابع كانون الأول - سقط ببغداد ثلج عظيم جداً حصل بسببه برد شديد، بحيث أتلف كثيراً من النخيل والأشجار، وجمدت الأدهان حتى الأشربة، وماء الورد والخل والخلجان الكبار، ودجلة‏.‏

وعقد بعض مشايخ الحديث مجلساً للتحديث على متن دجلة من فوق الجمد، وكتب هنالك، ثم انكسر البرد بمطر وقع فأزال ذلك كله ولله الحمد‏.‏

وفيها‏:‏ قدم الحجاج من خراسان إلى بغداد فاعتذر إليهم مؤنس الخادم بأن القرامطة قد قصدوا مكة، فرجعوا ولم يتهيأ الحج في هذه السنة من ناحية العراق بالكلية‏.‏

وفي ذي القعدة عزل الخليفة وزيره أبا العباس الخصيبي بعد سنة وشهرين، وأمر بالقبض عليه وحبسه، وذلك لإهماله أمر الوزارة والنظر في المصالح، وذلك لاشتغاله بالخمر في كل ليلة فيصبح مخموراً لا تمييز له، وقد وكل الأمور إلى نوابه فخانوا وعلموا مصالحهم‏.‏

وولى أبا القاسم عبيد الله بن محمد الكلوذاني نيابة عن علي بن عيسى، حتى يقدم، ثم أرسل في طلب علي بن عيسى وهو بدمشق فقدم بغداد في أبهة عظيمة، فنظر في المصالح الخاصة والعامة، ورد الأمور إلى السداد، وتمهدت الأمور‏.‏

واستدعى بالخصيبي فتهدده ولامه وناقشه على ما كان يعتمده ويفعله في خاصة نفسه من معاصي الله عز وجل، وفي الأمور العامة، وذلك بحضرة القضاة والأعيان، ثم رده إلى السجن‏.‏

وفيها‏:‏ أخذ نصر بن أحمد الساماني الملقب بالسعيد بلاد الري وسكنها إلى سنة ست عشرة وثلاثمائة‏.‏

وفيها‏:‏ غزت الصائفة من طرسوس بلاد الروم فغنموا وسلموا‏.‏

ولم يحج ركب العراق خوفاً من القرامطة‏.‏

وفيها توفي من الأعيان‏:‏ سعد النوبي صاحب باب النوبى من دار الخلافة ببغداد في صفر، وأقيم أخوه مكانه في حفظ هذا الباب الذي صار ينسب بعد إليه‏.‏

ومحمد بن محمد الباهلي‏.‏

ومحمد بن عمر ابن لبابة القرطبي‏.‏

ونصر بن القاسم الفرائضي الحنفي أبو الليث، سمع القواريري وكان ثقة عالماً بالفرائض على مذهب أبي حنيفة، مقرباً جليلاً‏.‏

 ثم دخلت سنة خمس عشرة وثلاثمائة

في صفر منها كان قدوم علي بن عيسى الوزير من دمشق، وقد تلقاه الناس إلى أثناء الطريق، فمنهم من لقيه إلى الأنبار، ومنهم دون ذلك‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 176‏)‏

وحين دخل إلى الخليفة خاطبه الخليفة فأحسن مخاطبته ثم انصرف إلى منزله، فبعث الخليفة وراءه بالفرش والقماش وعشرين ألف دينار، واستدعاه من الغد فخلع عليه فأنشد وهو في الخلعة‏:‏

ما الناس إلا مع الدنيا وصاحبها * فكيف ما انقلبت به انقلبوا

يعظمون أخا الدنيا فإن وثبت * يوماً عليه بما لا يشتهي وثبوا

وفيها‏:‏ جاءت الكتب بأن الروم دخلوا شميساط وأخذوا جميع ما فيها، ونصبوا فيها خيمة الملك، وضربوا الناقوس في الجامع بها، فأمر الخليفة مؤنس الخادم بالتجهيز إليهم، وخلع عليه خلعة سنية‏.‏

ثم جاءت الكتب بأن المسلمين وثبوا على الروم فقتلوا منهم خلقاً كثيراً جداً فلله الحمد والمنة‏.‏

ولما تجهز مؤنس للمسير جاءه بعض الخدم فأعلمه أن الخليفة يريد أن يقبض عليه إذ دخل لوداعه، وقد حضرت له ريبة في دار الخلافة مغطاة ليقع فيها، فأحجم عن الذهاب وجاءت الأمراء إليه من كل جانب ليكونوا معه على الخليفة، فبعث إليه الخليفة رقعة فيها خطه يحلف له أن هذا الأمر الذي بلغه ليس بصحيح‏.‏

فطابت نفسه وركب إلى دار الخلافة في غلمانه فلما دخل على الخليفة خاطبه مخاطبة عظيمة، وحلف أنه طيب القلب عليه وله عنده الصفاء الذي يعرفه‏.‏

ثم خرج من بين يديه معظماً مكرماً، وركب العباس بن الخليفة والوزير ونصر الحاجب في خدمته لتوديعه، وكبر الأمراء بين يديه مثل الحجبة، وكان خروجه يوماً مشهوداً قاصداً بلاد الثغور لقتال الروم‏.‏

وفي جمادى الأولى منها قبض على رجل خناق قد قتل خلقاً من النساء، وكان يدّعي لهن أنه يعرف العطف والتنجيم، فقصده النساء لذلك فإذا انفرد بالمرأة قام إليها ففعل الفاحشة وخنقها بوتر وأعانته امرأته وحفر لها في داره فدفنها، فإذا امتلأت تلك الدار من القتلى انتقل إلى دار أخرى‏.‏

ولما ظهر عليه وجد في داره التي هو فيها أخيراً سبع عشرة امرأة قد خنقهن، ثم تتبعت الدور التي سكنها فوجدوه قد قتل شيئاً كثيراً من النساء، فضرب ألف سوط ثم خنق حتى مات‏.‏

وفيها‏:‏ كان ظهور الديلم قبحهم الله ببلاد الري، وكان فيهم ملك غلب على أمرهم يقال له‏:‏ مرداويج، يجلس على سرير من ذهب وبين يديه سرير من فضة، ويقول‏:‏ أنا سليمان بن داود‏.‏

وقد سار في أهل الري وقزوين وأصبهان سيرة قبيحة جداً، فكان يقتل النساء والصبيان في المهد، ويأخذ أموال الناس، وهو في غاية الجبروت والشدة والجرأة على محارم الله عز وجل، فقتلته الأتراك وأراح الله المسلمين من شره‏.‏

وفيها‏:‏ كانت بين يوسف بن أبي الساج وبين أبي طاهر القرمطي عند الكوفة موقعة، فسبقه إليها أبو طاهر فحال بينه وبينها، فكتب إليه يوسف بن أبي الساج‏:‏ اسمع وأطع وإلا فاستعد للقتال يوم السبت تاسع شوال منها، فكتب إليه‏:‏ هلم‏.‏

فسار إليه، فلما تراءا الجمعان استقل يوسف الجيش القرمطي، وكان مع يوسف بن أبي الساج عشرون ألفاً، ومع القرمطي ألف فارس وخمسمائة رجل‏.‏

فقال يوسف‏:‏ وما قيمة هؤلاء الكلاب‏؟‏

وأمر الكاتب أن يكتب بالفتح إلى الخليفة قبل اللقاء، فلما اقتتلوا ثبت القرامطة ثباتاً عظيماً، ونزل القرمطي فحرَّض أصحابه، وحمل بهم حملة صادقة، فهزموا جند الخليفة، وأسروا يوسف بن أبي الساج أمير الجيش، وقتلوا خلقاً كثيراً من جند الخليفة، واستحوذوا على الكوفة، وجاءت الأخبار بذلك إلى بغداد‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 177‏)‏

وشاع بين الناس أن القرامطة يريدون أخذ بغداد، فانزعج الناس لذلك وظنوا صدقه، فاجتمع الوزير بالخليفة وقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن الأموال إنما تدخر لتكون عوناً على قتال أعداء الله، وإن هذا الأمر لم يقع أمر بعد زمن الصحابة أفظع منه، قد قطع هذا الكافر طريق الحج على الناس، وفتك في المسلمين مرة بعد مرة، وإن بيت المال ليس فيه شيء، فاتق الله يا أمير المؤمنين، وخاطب السيدة - يعني أمه - لعل أن يكون عندها شيء ادخرته لشدة، فهذا وقته‏.‏

فدخل على أمه فكانت هي التي ابتدأته بذلك، وبذلت له خمسمائة ألف دينار، وكان في بيت المال مثلها، فسلمها الخليفة إلى الوزير ليصرفها في تجهيز الجيوش لقتال القرامطة، فجهز جيشاً أربعين ألف مقاتل مع أمير يقال له‏:‏ بليق، فسار نحوهم، فلما سمعوا به أخذوا عليه الطرقات، فأراد دخول بغداد فلم يمكنه، ثم التقوا معه فلم يلبث بليق وجيشه أن انهزم، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وكان يوسف بن أبي الساج معهم مقيداً في خيمة فجعل ينظر إلى محل الوقعة، فلما رجع القرمطي قال‏:‏ أردت أن تهرب‏؟‏

فأمر به فضربت عنقه‏.‏

ورجع القرمطي من ناحية بغداد إلى الأنبار، ثم انصرف إلى هيت فأكثر أهل بغداد الصدقة، وكذلك الخليفة وأمه والوزير شكراً لله على صرفه عنهم‏.‏

وفيها‏:‏ بعث المهدي المدعي أنه فاطمي ببلاد المغرب ولده أبا القاسم في جيش إلى بلاد منها، فانهزم جيشه وقتل من أصحابه خلق كثير‏.‏

وفيها‏:‏ اختط المهدي المذكور مدينته المحمدية‏.‏

وفيها‏:‏ حاصر عبد الرحمن بن الداخل إلى بلاد المغرب الأموي مدينة طليطلة، وكانوا مسلمين، لكنهم نقضوا عهده ففتحها قهراً وقتل خلقاً من أهلها‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 ابن الجصاص الجوهري

واسمه الحسين بن عبد الله بن الجصاص الجوهري أبو عبد الله البغدادي، كان ذا مال عظيم وثروة واسعة، وكان أصل نعمته من بيت أحمد بن طولون، كان قد جعله جوهرياً له يسوق له ما يقع من نفائش الجواهر بمصر، فاكتسب بسبب ذلك أموالاً جزيلة جداً‏.‏

قال ابن الجصاص‏:‏ كنت يوماً بباب ابن طولون إذ خرجت القهرمانة وبيدها عقد فيه مائة حبة الجوهر، تساوي كل واحدة ألفي دينار‏.‏

قالت‏:‏ أريد أن تأخذ هذا فتخرطه حتى يكون أصغر من هذا الحجم‏.‏

فإن هذا نافر عما يريدونه‏.‏

فأخذته منها وذهبت به إلى منزلي وجعلت جواهر أصغر منه تساوي أقل من عشر قيمة تلك بكثير، فدفعتها إليها وفزت أنا بذلك الذي جاءت به وأرادت خرطه وإتلافه‏.‏

فكانت قيمته مائتي ألف دينار‏.‏

واتفق أنه صودر في أيام المقتدر مصادرة عظيمة، أخذ منه فيها ما يقاوم ستة عشر ألف ألف دينار، وبقي معه من الأموال شيء كثير جداً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 178‏)‏

قال بعض التجار‏:‏ دخلت عليه فوجدته يتردد في منزله كأنه مجنون، فقلت له‏:‏ ما لك هكذا‏؟‏

فقال‏:‏ ويحك، أخذ مني كذا وكذا فأنا أحس أن روحي ستخرج، فعذرته ثم أخذت في تسليته فقلت له‏:‏ إن دورك وبساتينك وضياعك الباقية تساوي سبعمائة ألف دينار، وأصدقني كم بقي عندك من الجواهر والمتاع‏؟‏

فإذا شيء يساوي ثلاثمائة ألف دينار غير ما بقي عند من الذهب والفضة المصكوكة‏.‏

فقلت له‏:‏ إن هذا أمر لا يشاركك فيه أحد من التجار ببغداد، مع ما لك من الوجاهة عند الدولة والناس‏.‏

قال‏:‏ فسرى عنه وتسلى عما فات وأكل - وكان له ثلاثة أيام لم يأكل شيئاً - ولما خلص في مصادرة المقتدر بشفاعة أمه السيدة فيه حكى عنه نفسه قال‏:‏ نظرت في دار الخلافة إلى مائة خيشة، فيها متاع رث مما حمل إليّ من مصر، وهو عندهم في دار مضيعة وكان لي في حملٍ منها ألف دينار موضوعة في مصر لا يشعر بها أحد، فاستوهبت ذلك من أم المقتدر فكلمت في ذلك ولدها، فأطلقه إليّ فتسلمته فإذا الذهب لم ينقص منه شيء‏.‏

وقد كان ابن الجصاص مع ذلك مغفلاً شديد التغفل في كلامه وأفعاله، وقد ذكر عنه أشياء تدل على ذلك، وقيل‏:‏ إنه إنما كان يظهر ذلك قصداً ليقال‏:‏ إنه مغفل، وقيل‏:‏ إنه كان يقول ذلك على سبيل البسط والدعابة والله سبحانه أعلم‏.‏

وفيها توفي‏:‏ عبد الله بن محمد القزويني‏.‏

 علي بن سليمان بن المفضل

أبو الحسن الأخفش، روى عن المبرّد وثعلب واليزيدي وغيرهم، وعنه الروياني والمعافا وغيرهما‏.‏

وكان ثقة في نقله فقيراً في ذات يده، توصل إلى أبي علي بن مقلة حتى كلّم فيه الوزير علي بن عيسى في أن يرتب له شيئاً فلم يجبه إلى ذلك، وضاق به الحال حتى كان يأكل اللفت النيء فمات فجأة من كثرة أكله في شعبان منها‏.‏

وهذا هو الأخفش الصغير، والأوسط هو سعيد بن مسعدة تلميذ سيبويه، وأما الكبير فهو أبو الخطاب عبد الحميد بن عبد المجيد، من أهل هجر، وهو شيخ سيبويه وأبي عبيد وغيرهما‏.‏

وقيل‏:‏ إن أبا بكر محمد بن السري السراج النحوي صاحب الأصول في النحو فيها مات‏.‏

قاله ابن الأثير‏.‏

ومحمد بن المسيب الأرغياني‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 179‏)‏

 ثم دخلت سنة ست عشرة وثلاثمائة

فيها عاث أبو طاهر سليمان بن أبي سعيد الجنابي القرمطي في الأرض فساداً، حاصر الرحبة فدخلها قهراً وقتل من أهلها خلقاً، وطلب منه أهل قرقيسيا الأمان فأمنهم، وبعث سراياه إلى ما حولها من الأعراب فقتل منهم خلقاً، حتى صار الناس إذا سمعوا بذكره يهربون من سماع اسمه، وقدر على الأعراب إمارة يحملونها إلى هجر في كل سنة، عن كل رأس ديناران‏.‏

وعاث في نواحي الموصل فساداً، وفي سنجار ونواحيها، وخرب تلك الديار وقتل وسلب ونهب‏.‏

فقصده مؤنس الخادم فلم يتواجها بل رجع إلى بلده هجر فابتنى بها داراً سماها دار الهجرة، ودعا إلى المهدي الذي ببلاد المغرب بمدينة المهدية‏.‏

وتفاقم أمره وكثرت أتباعه فصاروا يكبسون القرية من أرض السواد، فيقتلون أهلها وينهبون أموالها، ورام في نفسه دخول الكوفة وأخذها فلم يطق ذلك‏.‏

ولما رأى الوزير علي ابن عيسى ما يفعله هذا القرمطي في بلاد الإسلام، وليس له دافع استعفى من الوزارة لضعف الخليفة وجيشه عنه، وعزل نفسه منها، فسعى فيها علي بن مقلة الكاتب المشهور، فوليها بسفارة نصر الحاجب والي عبد الله البريدي - بالباء الموحدة - من البريد، ويقال‏:‏ اليزيدي، لخدمة جده يزيد بن منصور الجهيري‏.‏

ثم جهز الخليفة جيشاً كثيفاً مع مؤنس الخادم، فاقتتلوا مع القرامطة فقتلوا من القرامطة خلقاً كثيراً، وأسروا منهم طائفة كثيرة من أشرافهم، ودخل بهم مؤنس الخادم بغداد ومعه أعلام من أعلامهم منكسة مكتوب عليها‏:‏ ‏{‏وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 5‏]‏‏.‏

ففرح الناس بذلك فرحاً شديداً، وطابت أنفس البغاددة، وانكسر القرامطة الذين كانوا قد نشأوا وفشوا بأرض العراق، وفوّض القرامطة أمرهم إلى رجل يقال له‏:‏ حريث بن مسعود، ودعوا إلى المهدي الذي ظهر ببلاد المغرب جد الفاطميين، وهم أدعياء كذبة، كما قد ذكر ذلك غير واحد من العلماء‏.‏

كما سيأتي تفصيله وبيانه في موضعه‏.‏

وفيها‏:‏ وقعت وحشة بين مؤنس الخادم والمقتدر، وسبب ذلك‏:‏ أن نازوكاً أمير الشرطة وقع بينه وبين هارون بن غريب - وهو ابن خال المقتدر - فانتصر هارون على نازوك، وشاع بين العامة أن هارون سيصير أمير الأمراء‏.‏

فبلغ ذلك مؤنس الخادم وهو بالرقة فأسرع الأوبة إلى بغداد، واجتمع بالخليفة فتصالحا، ثم إن الخليفة نقل هارون إلى دار الخلافة فقويت الوحشة بينهما، وانضم إلى مؤنس جماعة من الأمراء وترددت الرسل بينهما، وانقضت هذه السنة والأمر كذلك‏.‏

وهذا كله من ضعف الأمور واضطرابها وكثرة الفتن وانتشارها‏.‏

وفيها‏:‏ كان مقتل الحسين بن القاسم الداعي العلوي صاحب الري على يد صاحب الديلم وسلطانهم مرداويج قبحه الله‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 180‏)‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 بنان بن محمد بن حمدان بن سعيد

أبو الحسن الزاهد، ويعرف بالحمال، وكانت له كرامات كثيرة، وله منزلة كبيرة عند الناس، وكان لا يقبل من السلطان شيئاً، وقد أنكر يوماً على ابن طولون شيئاً من المنكرات وأمره بالمعروف، فأمر به فألقي بين يدي الأسد، فكان الأسد يشمه ويحجم عنه، فأمر برفعه من بين يديه وعظمه الناس جداً، وسأله بعض الناس عن حاله حين كان بين يدي الأسد فقال له‏:‏ لم يكن عليّ بأس، قد كنت أفكر في سؤر السباع واختلاف العلماء فيه هل هو طاهر أم نجس‏؟‏

قالوا‏:‏ وجاءه رجل فقال له‏:‏ إن لي على رجل مائة دينار، وقد ذهبت الوثيقة، وأنا أخشى أن ينكر الرجل، فأسألك أن تدعو لي بأن يرد الله عليّ الوثيقة‏.‏

فقال بنان‏:‏ إني رجل قد كبرت سني ورق عظمي، وأنا أحب الحلواء، فاذهب فاشتر لي منها رطلاً وأتني به حتى أدعو لك‏.‏

فذهب الرجل فاشترى الرطل ثم جاء به إليه ففتح الورقة التي فيها الحلواء، فإذا هي حجته بالمائة دينار‏.‏

فقال له‏:‏ أهذه حجتك‏؟‏

قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ خذ حجتك وخذ الحلواء فأطعمها صبيانك‏.‏

ولما توفي خرج أهل مصر في جنازته تعظيماً له وإكراماً لشأنه‏.‏

وفيها توفي‏:‏  محمد بن عقيل البلخي‏.‏

وأبو بكر بن أبي داود السجستاني الحافظ بن الحافظ‏.‏

وأبو عوانة يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الأسفرائيني، صاحب الصحيح المستخرج على مسلم، وقد كان من الحفاظ المكثرين، والأئمة المشهورين‏.‏

ونصر الحاجب، كان من خيار الأمراء، ديناً عاقلاً، أنفق من ماله في حرب القرامطة مائة ألف دينار، وخرج بنفسه محتسباً فمات في أثناء الطريق في هذه السنة، وكان حاجباً للخليفة المقتدر‏.‏